الأربعاء، 13 فبراير 2013

مقالات


                                          من مظاهر تأثير الثقافة العربية الإسلامية في آداب الشعوب    

(مباحث في الأدب المقارن)
عبد الواحد عرجوني

1- مدخـــل:
     إن البحث عن طريقة انتقال تراث أمة ما وتمثله عند أمة أخرى، وتأثر شعب من الشعوب، بتراث الأمم والشعوب التي احتك بها، طيلة سيرورته التاريخية، من أعقد الأمور، خاصة إذا كان ذلك، قد تم في فترات ومراحل تاريخية مختلفة، عرف بعضها صدامات دموية أتت على الأخضر واليابس،  وأمثلة ذلك كثيرة في التاريخ . أما ما يتعلق بأمتنا العربية الإسلامية، فقد أدى غزو التتار لمناطق الخلافة الإسلامية، في الشرق إلى إتلاف الكثير من النفائس، وحرمان الأجيال منها. ويذكر ابن الأثير في كامله أن :"حادثة التتار من الحوادث العظمى ، والمصائب التي عقمت الدهور عن مثلها ، وعمت الخلائق وخصت المسلمين. فلو قائل إن العلم منذ أن خلقه الله تعالى إلى الآن، لم يبتل بمثلها لكان صادقا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها…فهذه الحادثة التي استطار شرها وعم ضررها…" ويذكر صاحب "سير أعلام النبلاء" ما حدث في بغداد فيقول:"وبقي السيف في بغداد بضعة وثلاثين يوما، فأقل ما قيل قتل بها ثمانمائة ألف نفس، وأكثر ما قيل بلغوا ألف ألف وثمان مائة ألفا وجرت السيول من الدماء." . ولا يستدعي الأمر الغوص بعيدا في التاريخ، ونحن نشهد غزوا أشرس، ربما مما حدث آنئذ، يقوده تتار القرن الواحد والعشرين، بهدف محو الذاكرة والهوية، بنهب المتاحف والخزائن.
رغم هذا الوجه الأسود للحضارة الانسانية، فإن ذاكرة الشعوب، تأبى إلا أن تحتفظ بالكثير مما لم تحفظه الأسفار. ينتقل هذا المحفوظ، من مكان إلى آخر، ومن شعب إلى شعب، تأثيرا وتأثرا ، بالزيادة أو النقصان، بتغيير الأسماء أو الأحداث، لتوافق الأمزجة والعادات والتقاليد المحلية، مع الحفاظ على الجوهر. ليتحول هدا المنقول، إلى تراث مشترك، يدون أو يروى شفهيا.
في الكثير من الأحيان ، يصعب تتبع وتحديد أصول قصة أو جذورها، أو تتبع سيرها التاريخي ومقاماتها، لأن ذلك ما لا يعترف  بالحدود التي يضعها الساسة. فالإبداع الانساني، يقاوم الرغبات المهووسة بالقتل والدمار، لهواة استعباد الآخرين، وذلك لأمر معلوم عند الخالق الرحمان.إنها سنة الله في خلقه "يا أيها النُاسٌ إنا خَلَقناكـُمْ مِنْ ذكَرٍ وَأنْثى وَجَعَلْناكُمْ شعوبًا وَقبَائِلَ لِتَعارَفوا إِنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتقاكُمْ.إِنَّ اللهَ عَليمٌ خَبيرٌ" .
     لا يمكن لأحد أن ينفي تأثير الثقافة العربية الإسلامية، في ثقافات وآداب الأمم والشعوب التي احتك بها المسلمون، حين  سادت هذه الثقافة في مرحلة تاريخية معلومة، لتشمل أجزاء شاسعة من القارات التي تعتبر من أقدم المناطق التي استوطنها الانسان. كما أنه لا يمكن إنكار تأثر هده الثقافة، بهذه الثقافات، مع حفاظها على روحها الاسلامية.
     إن المباحث التي سيتم تناولها في هذه العجالة المتواضعة، تدخل في هذا الإطار؛ أي ضمن ما يسمى بـ"الأدب المقارن"، الذي اختلف في تحديد مفهومه وأدوات اشتغاله، بين مدارس عدة، يأتي على على رأسها الاختلاف بين المدرستين ؛ الفرنسية، وفرنسا "أول بلد استخدم فيها مصطلح "الأدب المقارن" عام 1827" . ويمكن تلخيص مضامين  المفهوم الفرنسي، في أنه العلم الذي "يدرس مواطن التلاقي بين آداب اللغات المختلفة وصلاتها الكثيرة المعقدة في حاضرها وماضيها."  ، أو على أنه "العلم الذي يبحث ويقارن بين العلاقات المتشابهة بين الآداب المختلفة في لغات مختلفة" ، والمدرسة الأمريكية التي توسع من المفهوم ليستوعب "كل الدراسات المقارنة بين الآداب المختلفة أو بين الآداب وغيرها من الفنون..وبينها وبين غيرها من المعارف الانسانية  بوجه عام."
من مظاهر تأثير الثقافة العربية الإسلامية ،  في الثقافات واللغات الأخرى،وخاصة منها الفارسية والتركية والأردية، واللغات الأوربية الحديثة، هي انتقال الكثير من القصص المعروفة بأصولها الإسلامية، كقصة "مجنون ليلى" العربية الأصل، وقصة "يوسف" عليه السلام، وقصة "البلبل والوردة"، وقصة "الإسراء والمعراج"، التي اتخذت أشكال متعددة في الآداب الأخرى، و"رسالة الطير" لحجة الإسلام الإمام الغزالي، وحكايات "ألف ليلة وليلة"، و"كليلة ودمنة" وغيرها.
2- قصة "مجنون ليلى" في الآداب العالمية:
     القصة كما يرويها صاحب الأغاني، هو أن قيس بن الملوح، أحب  "ليلى"، وتشبب بها، فرفض أهلها تزويجها إياه، لأن العادات كانت تمنع دلك، فهام قيس في الصحراء، حتى وسم بالجنون، يعاشر الحيوانات ، يحنو عليها، وتحنو عليه، كما يحدث مع الغزال:
     أيا شبه ليلى لا تراعي فإنني         لك اليوم من بين الوحوش صديق
     فعيناك عيناها وجيدك جيدها         خلا أن عظم الساق منك دقيــق
وفي قول آخر:
               "أيا شبه ليلى   لا تراعي فإنني        لك اليوم من وحشية لصديق
    ويا شبه ليلى لو تلبثت ساعـة         لـعـل فؤادي من جواه يفيق
     تفر وقد أطلقتها من وثاقـهـا        فأنـت لليلى لو علمت طليق "
فهو يرى ليلى في كل شيء. لقد ملكت عليه فكره وقلبه. وتحدث الكثير من الحوادث، تختلف من رواية لأخرى، ومن لغة للغة أخرى.كما اختلفت الآراء حول اسم المجنون نفسه، يقول صاحب الأغاني: "وأخبرني أبو سعد الحسن بن علي بن زكريا العدوي قال : حدثنا حماد بن طالوت بن عباد أنه سأل الآصمعي عنه فقال: لم يكن مجنونا بل كانت به لوثة أحدثها العشق فيه كان يهوى امرأة من قومه يقال لها   ليلى ،  واسمه قيس بن معاذ .  وذكر عمرو بن أبي عمرو الشيباني عن أبيه أن اسمه قيس بن معاذ .  وذكر شعيب بن السكن عن يونس النحوي أن اسمه قيس بن الملوح . قال أبو عمرو الشيباني: وحدثني رجل من أهل اليمن أنه رآه ولقيه وسأله عن اسمه ونسبه فذكر أنه قيس بن الملوح .  وذكر هشام بن محمد الكلبي أنه قيس بن الملوح ." 
     انتقلت قصة "مجنون ليلى"، إلى الأدب الفارسي، فالأدب الأردي والتركي. نجد تجليات لها في قصة "وامق وعذرا"، رغم ما يروى ، من هذه الأخيرة، سابقة في التاريخ. يروي الأستاذ عبد السلام كفافي، رحمه الله، أن أول ظهور لقصة "وامق وعذرا"، كان في عهد الأسرة الطاهرية (205-259هـ)، قدمت لعبدالله بن طاهر أمير خراسان من قبل المأمون، قدمها له شخص على أنها حكاية صنفها الحكماء لكسرى أنوشروان، فأمر عبدالله بغسل الكتاب بالماء.
ورغم الأصول الفارسية، كما يقال لهده الحكاية، فإنها تشير إلى "ذلك اللون من الحب الذي يؤدي بصاحبه إلى الجنون، ونشهد كذلك هذا التعاطف بين الانسان والوحوش، وهو من الصور التي ظهرت في قصة "مجنون ليلى" . إلا أن أشهر من نظم قصة "مجنون ليلى" في الأدب الفارسي، هو نظامي الكَنجوي (حوالي:530هـ)، والذي اختلف حول اسمه المؤرخون ، ولم يحفظ التاريخ سوى القليل من حياته. ويرجع بعض الباحثين، إلى أن اسمه هو :"جمال الدين بن يوسف بن مؤيد الكَنجوي. وهو الاسم الذي نقله حاجي خليفة." ، وقد نظمها في أربعة آلاف وسبعمائة بيت في أقل من أربعة أشهر.  وتتضمن القصة بعض الاختلافات مع الأصل العربي، فقيس في هذه المنظومة تعرف على ليلى في "المكتب" أي الكتاب، فكان ذلك بداية العشق والهيام، وقيس ابن ملك من ملوك العرب. يتدخل أمير الصدقات " نوفل" الذي عمل لتحقيق رغبة قيس في الفوز بليلى، ولم يفلح، فحارب أهلها، لكن أباها ، رغم الهزيمة، أبى ولو أدى به الأمر إلى قتل ابنته. ينصرف قيس إلى الصحراء ليعاشر الحيوانات والوحوش. وقد أضفى الشاعرنظامي كَنجوي جوا صوفيا على القصة، كما أضاف إليها وحورها، فالقسم الذي يتدخل فيه |سلام البغدادي" لا وجود له في الأصل العربي، وبغداد لم تكن موجودة آنئذ. هذا الشخص هو الذي سيروي  شعر قيس بعد أن أمضى معه زمنا في الصحراء. تمر الأحداث، ويموت زوج ليلى، فتقيم  في بيتها، لا ترى انسانا ولا يراها إنسان إلى أن تفارق الحياة، فيحزن المجنون حزنا عظيما، ويموت بدوره على قبرها.
     لقد حققت القصة نجاحا لا نظير له ، ولاقت إقبالا، مما أدى إلى نسخها ونشرها على أوسع نطاق، كما أضيف إليها الكثير، وحورت على يد الشعراء، ومن الذين نسجوا على منوالها "الكَنجوي وأمير حسرو الدهلوي (ت.726هـ)، وعبدالرحمان الجامي(ت.898هـ)، وابن أخته عبدالله هاتفي. ولقد رسم نظامي ، كما يشير عبدالسلام كفافي،  الطريق أمام غيره من الشعراء، في جوانب متعددة، منها:
1-    نسق المادة العربية، في إطار قصصي متسلسل.
2-    أول من أضفى على القصة طابعا صوفيا.
3-    أورد في شعره الكثير من القضايا الثقافية.
4-    أدى ذيوع القصة وانتشارها إلى الاقبال على نسخها وقراءتها.
     إنتشرت القصة من الفارسية إلىة الأردية، لغة المسلمين الهنود ، والتركية، فنظم فيها الشعراء الترك، ومن هؤلاء "علي شيرنوائي" و"حمدي"(ت.941هـ)، وفضولي البغدادي(ت.963هـ)، ويعتبر هدا الأخير، من أبرز  من تفوق في منظوته، كما وصفها "جب" بأنها أجمل مثنوي قصصي في الشعر التركي. ولا نجد أدلة على تأثر "روميو وجولييت" بقصة المجنون، إلا أن قصة العشق المذكورة في "أنشودة رولان"، التي وقعت بين "رولان" وابنة ملك الخطا، وهي قبيلة تركية، أقرب من هذا القبيل، إذ يصاب رولان بمرض، لن يشفى منه إلا بعد تدخل الساحر "أستولفو"، وهذا يحيل على نوع من التأثر بقصة المجنون. كما أن قصة "مجنون إلزا" التي تدور أحداثها في جو عربي إسلامي،آخر زمن بني الأحمر، أقرب إلى القصة العربية في الكثير من جوانبها.
    3-  قصة "البلبل والوردة" :
          تتردد قصة "البلبل والوردة " في آداب أمم وشعوب مختلفة ، من الشرق ومن الغرب، في الأدب العربي، وفي الأدب الفارسي، والهندي، والآداب الأوربية، فما الذي يجمع بين هذه الآداب ؟ هل يعود الأمر، لما يسميه "فان تيجم" "مودة أدبية عالمية، يقول:"حين يكون تأثير كاتب معين أو عدد من الكتاب، يجمعهم نجاحهم في الخارج، واقعا على مختلف الآداب في واحد، قيل أن هناك مودة أدبية عالمية، مثال ذلك "مودة " القصائد الرمزية المستوحاة من "قصة الوردة" "  . ولكن ، هل يمكن اعتبار "قصة البلبل والوردة" ، تدخل في إطار تأثير كاتب معين، وفي عصر معين ؟ يجيب  "فان تيجم" نفسه عن السؤال بقوله :"وبديهي أن بعض التأثيرات المتنقلة لم يكن مركزها مؤلفا واحدا" . ولا يمكن أن ، أيضا، أن يكون التأثير لعصر واحد. وإذا كان "تيجم" يتحدث عن التأثير والتأثر بين آداب اللغات الأوربية وعصورها، فإن غيره، توسع في طرح السؤال ليشمل ثقافات أخرى، يأتي على رأسها الثقافة العربية الإسلامية، التي سادت في منطقة جنوب وشرق أوربا لفترة تاريخية طويلة، وترجمت نفائسها إلى اللاتينية واللغات الأوربية القومية، كما أن الاحتكاك الذي حدث من الجهة الشرقية، إبان الحروب الصليبية، أو عن طريق اللغة التركية التي توغلت في هذه الجهات. ويرى "فان تيجم" ، أن إسبانيا كانت إلى عام 1660 م ، موردا لأوربا كلها "تستمد منها موضوعات مسرحياتها ومواقف ملاهيها ومآسيها" . ولا أحد ينكر التأثير العربي الإسلامي في الأدب الإسباني.
     ألا يمكن أن نتساءل حول نص "أوسكار وايلد" (Oscar Wilde ) (1856-1900 )"البلبل والوردة"، إذا كان هناك تأثير أو تأثر للقصة ، كما هي معروفة في الشرق، فيما كتب وايلد ؟ أم أن الأمر، لا يعدو أن يكون مشتركا إنسانيا عاما، أو أن "تغريد البلبل لا يعدو أن يكون قد أوحت به العاطفة الشعرية تجاه الطبيعة. وقد تناول الموضوع نفسه، كاتب غربي آخر هو "جيوم دي لوري" وأتمها كاتب آخر هو "جان دي مين" ، وهي رواية "الوردة" . وتتكون هذه القصة من  سبعمائة واثنين وعشرين ألف بيت (22700 ) ، من الوزن الثماني، بقافية تجمع كل بيتين منها، قام بنظمها شاعران هما :جيوم دي لوريس (Guillaume de Louis)، الذي نظم القسم الأول (4260 بيت)، في النصف الأول من القرن الثالث عشر، و"جان دي مونج" (Jean de Meung) ، الذي أتمها ، بعد مرور خمسين عاما، حوالي سنة 1270 م . كما نجد للقصة حضورا  في إبداعات أخرى، مثلما هو الأمر عند "بوشكين" في قصيدة "آه يافتاة ياوردة، إنني في الأغلال"، في قصيدة أخرى تحت عنوان "البلبل والوردة" التي نظمها عام 1827 م ، يقول فيها :
"في صمت الحدائق، في الربيع، في ظلمة
اللــيــالــي،
يشدو البلبل الشرقي أعلى الوردة.
 لكن الوردة الحبيبة لا تشعر، لا تصغي…" 
أو عند "غوته" . وإذا كان هذان الأخيران لا ينفيان تأثير الأدب الشرقي في إبداعهم، فإن "وايلد" لا يورد أي إشارة صريحة في الأمر.
     يعتبر "أوسكار وايلد"، من أغزر الكتاب إنتاجا، وواضع نظرية "الفن للفن"، كتب في الشعر والرواية البوليسية، والمسرحية ، كان يتقن اللغة الفرنسية، وألف بها مسرحية "سالومي" سنة 1896 م، قدمت بباريس، وآخر أعماله هي مجموعته الشعرية "موسم زنزانة ريدرينغ" (1898 م)، كتبها خلال فترة سجنه. عاش أواخر أيامه في فرنسا وتوفي بها، كتب "البلبل والوردة" أو "العندليب والوردة" بين (1888 و 1891 )، وخلاصة القصة؛ أن تلميذا  أراد أن يقدم وردة لحبيبته، لترقص معه في حفلة الأمير، فلم يجد في حديقته وردة حمراء، فسمعه العندليب، الذي أدرك سر حزن العاشق الشاب،دون الحشرات والحيوانات والزهور. طار العصفور باحثا إلى أن وجد شجرة ورودها حمراء. اِشترطت عليه هده الأخيرة ، أن يضحي بحياته من أجل الوردة ؛ بأن يغني طوال الليل، تحت ضوء القمر ويلطخها بدمه، بوضع صدره على شوكة، ويضغط إلى أن يسقيه بدمها. وكذلك كان؛ فماذا يساوي قلب عندليب، مقابل قلب انسان ؟ فضحى العصفور بحياته مقابل حصول الشاب على وردة حمراء يقدمها لحبيبته، ومقابل أن يكون عاشقا حقيقيا، إلا أن الفتاة، لم تول أي اهتمام للشاب حين قدم لها الوردة، لأن حفيد الملك أرسل لها مجوهرات، فرمى التلميذ بالوردة إلى الشارع لتدوسها عربة خيل كانت مارة من هناك، وليقرر دراسة الفلسفة والميتافيزيقا . ويبدو من القصة أن وايلد وظفها من أجل تأكيد مذهبه "الفن للفن"، فموت البلبل كان تضحية لإرضاء الشاب، في حين أن البلبل كانت تضحيته من أجل أن يستمر الشاب في العشق الصافي، فهذا الشاب الذي كان مسجى على العشب يذرف الدموع، لأن حبيبته لن ترقص معه إن لم يقدم لها وردة حمراء، كان من المنتظر أن يأخذ هده التضحية بعين الاعتبار، لكن ما حدث هو نوع من اللامبالاة ، فالحكاية محكومة بنوع من العبث ؛ أي تخلو من الاعتراف بالجميل، اعتراف الشاب بجميل البلبل واعتراف الفتاة بجميل الشاب، وذلك ما لم يحدث، ثم موقف الشاب الذي رمى بالوردة لتدوسها حوافر الخيل وكأن شيئا لم يحدث :"غبي هو الحب…لا يستعمل في نصف ما نستعمل فيه المنطق"  .
     أما في التراث الإسلامي، فقد وظفت القصة توظيفا رمزيا راقيا، خاصة عند المتصوفة. ويشير الأستاد "أ.د.غريغوري" إلى أن البلبل والوردة من أهم العناصر الصوفية والشعرية ، فالبلبل وقع في حب الوردة وهي زرقاء، وكان أخرسا، ولما اقترب منها حيته، فلم يرد التحية، مما أغضب الوردة، فلم تكلمه، فأحزنه ذلك، ودعا الخالق أن يمنحه صوتا، فاستجاب الله لدعائه ووهبه أجمل صوت في الكون. عاد إلى الوردة وغنى لها تعبيرا عن حبه، لكن هذه الأخير لم تعره سمعا، فانسحب كسير القلب. شعرت الوردة بالندم. في الصباح، عاد البلبل فرأى الدموع على أوراقها فأسرع لمعانقتها، لكن أشواكها طعنته فمات فانساح دمه عليها واصبحت حمراء."هذه هي الأسطورة التي أترعت خيال الكثير من من الشعراء الفرس والأتراك والعرب والهنود، الدين خلفوا أبياتا خالدة مكرسة للحب والجمال والموت المجسمة في الثنائي؛ البلبل والوردة" . والاختلاف بين القصتين، هو أنه عند وايلد البلبل ضحى من أجل الشاب، وفي الثانية البلبل كان عاشقا للوردة، وموته نتج عن هذا العشق، مع الاتفاق على أن دم البلبل هو الذي جعل الوردة حمراء.
     ويفسر النورسي ، رحمه الله ،:"الحب الذي يشد البلبل إلى الوردة، كرمز للمحبة التي تربط كل كائنات الله التي تفرح بالهدايا التي وهبها لغيرها، مثلما يفرح البلبل بالجمال الذي وهبه الله للوردة."  فالبلبل في نظره ليس إلا مظهر من مظاهر تمجيد الله…أما فيما يخص البشرية، فالمختار بلبلا لها هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم." فالنورسي، كتب نص البلبل للتعبير عن معنى من أجمل المعاني في الوجود .
     ومن الذين كتبوا عن البلبل والوردة، من الشعراء، غوته، ومعروف الرصافي، وإبراهيم طوقان وغيرهم.
4- قصة يوسف، عليه السلام، وزليخا
     ذكرت قصة يوسف عليه السلام، في القرآن الكريم (سورة يوسف)، قال تعالى :" نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ."  كما وردت في الكتاب المقدس، مع اختلاف في التفاصيل، فقد ذكرت في سفر التكوين، الإصحاح (39) الآيات :من (1) إلى (23)، ويسمى فيها زوج زليخا "بوطيفار"، وتنص على أنه كان مخصيا، ويعمل رئيس شرطة  . ويشير البعض إلى أن هناك قصصا مشابهة تعود إلى تاريخ سابق، فهناك حكاية شعبية مصرية، ترجع إلى تاريخ (1250 ق.م) خمسين ومائتين وألف قبل الميلاد، وتعرف بقصة "أنوب وباطا". ويقول "أ.ل.رانيل"، في كتابه "الماضي المشترك بين العرب والغرب…":"بالإضافة إلى التراث العبري، كان للتراث الإغريقي تأثيره في قصة يوسف ، وانتشرت في العالم الإسلامي، أساسا من خلال حكاية "هيبوليتس وفيدرا" .
      ومهما قيل ، في هذا الموضوع عن التأثير العبري، أو اليوناني في الآداب الغربية، فإنه بالنسبة للعالم الإسلامي، لا يمكن التسليم بهذا الرأي  ، ما دام القرآن الكريم قد فصل فيها، وهو المصدر الأول للمسلمين، إلى جانب السنة النبوية الشريفة، رغم ما يمكن الإشارة إليه، من تأثر بعض القصاصين بالإسرائيليات . كما أن المفسرين المسلمين قد أفاضوا في الحديث، وتوسعوا في قصص الأنبياء. ومن أشهر من كتب في الموضوع؛ الكسائي والثعلبي، والأسماء المذكورة عندهما هي: يوسف وزليخا زوجة "العزيز"، أو "الملك"، أو "قوطيفر"، و"ابنة عكاهرة" ، وهما لم يخرجا عما ذكر في القرآن الكريم، مع اختلاف، بينهما، في بعض الدقائق؛ فالكسائي، ينهي القصة بأن يتزوج يوسف بزليخا، ويكون له معها ولدين"إفرام" و"منشا" .
     اَنتشرت قصة يوسف وزليخا، في العالم الإسلامي، انطلاقا من القرآن الكريم، فنظم فيها الشعراء والقصاصون. ففيما بين (216-389هـ)، في فارس، "نظم أبو المؤيد البلخي  قصة يوسف وزليخا، فكان ذلك إيذانا بظهور هذا اللون من الروايات المنظومة الذي يشبه القصص الرومانسي  المنظومة في آداب الغرب، إبان القرون الوسطى ، ومن الذين نظموا هذه القصة، أيضا، الفردوسي، وعبد الحميد الجامي. ويذكر الفردوسي في  مقدمة منظومته، أن أبا المؤيد البلخي، هو أول شاعر نظم القصة، ومنظومته مفقودة، ويشير عبدالسلام كفافي، رحمه الله، أن منظومة الفردوسي (أوائل القرن الخامس الهجري)، هي التي "أدخلت موضوع "يوسف وزليخا" ضمن نطاق الشعر القصصي الإسلامي، فأصبح موضوعا شائعا، تناوله عشرات الشعراء، في الآداب الإسلامية المختلفة" . ومن بين من نظمها عمعق النجاري (ت.542 أو 543)، ولا وجود لأثر هده المنظومة، كما تناولها الشعراء الأتراك، وشعراء الأدب الأردي.
     انتشرت قصة يوسف وزليخا في "القارة الأربية وانجلترا في العصور الوسطى، نقلا عن النص الإسلامي؛ فقد امتد التأثير العربي من بلاد فارس حتى إسبانيا…فلقد سجل من بلاد الفرس ثماني عشرة رواية..كما سجل في إسبانيا عدد لا يحصى لقصائد مسرحيات وقصص عن يوسف" .
     إنه لا يمكن إثبات أو نفي تأثر الشعراء، من المصادر الغير الإسلامية، فمما لا شك فيه هو الاستناد إلى الأصول الإسلامية ، بالنسبة للشعراء المسلمين، وهذا لا ينفي تسرب بعض الإسرائيليات، لكنها لا تمس جوهر القصة كما ردت في سورة يوسف.أما التوراة فلم يكن آنئد قد ترجم إلى العربية، فالفردوسي، "ذكر بنفسه مصادره التي أفاد منها  في صياغة قصته. وذكر بوجه خاص  روايات وهب بن منبه، كعب الأحبار…"  كما أن تاريخ الطبري الذي يتضمن رواية مفصلة للقصة ، كان قد ترجم إلى الفارسية. ويذكر المؤرخون، أن منظومة أبي القاسم الفردوسي، نظمها بعد الانتهاء من "الشاهنامه"، وأراد أن يكفر بها عن ذنبه عن قضاء عمره، في نظم هذه الأخيرة، التي تحتوي على الكثير من الأكاذيب والمغالطات، عن سير ملوك الفرس الأقدمين، يقول:"لقد سئمت من غرس هده البذور، فوضعت خاتما على لساني وقلبي.فلن أنطق الآن بكاذب الأسماء، ولن أضفي على الكلام رونقا بمقالي، ولن أغرس الآن بذور الفتنة والإثم ، فقد حل نور الهداية عندي محل الظلام." . وإذا كان هذا كلام الفردوسي، فإنه لا مجال للشك، في تأثره بالقصة القرآنية، كما فصل فيها المفسرون والطبري، خاصة وقد التزم بترتيبها كما وردت في القرآن الكريم. أما عبدالرحمان الجامي، فإن تناوله للقصة يغلب عليه الجانب الفني، فقد أفاض في أحداث حياة زليخا التي لم يفصل فيها الفردوسي ، الذي ركزعلى شخصية يوسف، مما جعل الجامي يوظف الكثير من الخيال والاختراع، وحذف الكثير من التفصيلات المتعلقة بحياة يوسف ، عليه السلام، وخاصة تلك المتعلقة بصباه، ونشأته الأولى، كما ركز على فكرة الحب، وصوره  بأسلوب صوفي، يقول في المستهل: " تحول بوجهك عن العالم، وتوجه إلى شجون العشق،فعالم العشق هو العالم الجميل.لا حرم الله قلب انسان من شجن العشق، ولا كان في الدنيا قلب خلا من العشق !" .
ومن الشعراء الترك الذين نظموا قصة "يوسف وزليخا" حمد الله جلبي (حمدي) (852-941هـ)، وهو من معاصري الجامي، وقد حقق بمنظومته نجاحا جعلته يسترزق بنسخها وبيعها.ويذكر الشاعر في مقدمة القصة، أن من أسباب نظمه لها، أنه شعر بأن مصيره على أيدي إخوته، يشبه ما لقيه يوسف على أيدي إخوته، فقد كان له أحد عشر أخا . كما يذكر أنه عاد إلى منظومة معاصره عبدالرحمان الجامي.
     تبدأ المنظومة بما كان شائعا في المثنويات، وهي حمد الله ومدح الرسول صلىالله عليه وسلم، والثناء على الخلفاء الراشدين، ثم سبب نظم القصة، ودعوة النفس إلى التوبة، والتذكير بما ستلاقيه، إلى أن يصل إلى الحديث عن الأنبياء الذين جاؤوا قبل يوسف ، عليه السلام، وأخيرا تبدأ القصة.
     من الشعراء الترك الذين نظموا هذه القصة، أيضا، "أحمد بن سليمان بن كمال باشا"، الذي اشتهر بتأليفه باللغة العربية أكثر من التركية. نظم مثنويه في سبعة وسبعين وسبعمائة وسبعة آلاف بيت(7777). أهداها إلى السلطان "بايزيد". لم تحظ هذه المنظومة بما حظيت به منظومة حمدي.
     نجد في الأدب الإسباني  منظومة تدعى "قصيدة يوسف" ( Poema de Yuçuf )، يرجع تاريخها إلى القرن الرابع عشر الميلادي (ق.14م)  "وهي مثال للأدب الإسباني الذي كان موجها للمسلمين الذين يتحدثون الإسبانية." لأنها كتبت بالحرف  العربي.
5- "منطق الطير" لفريد الدين العطار :
     هو أبو حامد محمد بن أبي بكر إبراهيم بن إسحاق، من كبار شعراء الفرس، أحرز شهرة واسعة في القرن السادس الهجري، وأوائل القرن السابع. أختلف حول تاريخ ولادته  (537-513-512هـ)، وتاريخ وفاته (627-632-616). أثر في جلال الدين الرومي تأثيرا عميقا. سلك سبيل التصوف، ومن أشهر مثنوياته "منطق الطير" . أثر في تطوير  فني الغزل والرباعي، وكان لأعماله أعمق الأثر في الأدب الفارسي، والآداب العالمية. استعار اسم ملحمته من الآية الكريمة :" وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ." اتخذ من الهدهد مرشدا للطير في رحلتها  أو معراجها. نجد في التراث الإسلامي مجموعة من سوابق هذا النوع من النصوص، منها :"رسالة الطير " لابن سينا، و"رسالة الطير" المنسوبة للإمام الغزالي (505هـ)، وإطار هذه الأخيرة أشبه بالإطار العام لملحة العطار، وهي موجودة في مؤلف "الجواهر الغوالي من رسائل الإمام الغزالي"، وهي عبارة عن رحلة روحية قامت بها النفوس (رمز الطيور) إلى خالقها ( رمز العنقاء)، فهلك من هلك ووصل من وصل.
     يقود الهدهد الطير في رحلة شاقة ، ويبين لها أن أمامها سبعة أودية عليها أن تقطعها، هي : ودي الطلب، ووادي العشق،ووادي المعرفة، ووادي الاستغناء، ووادي التوحيد، ووادي الحيرة، ووادي الفقر والفناء. وهي رموز لمجاهدات صوفية ومقامات وأحوال، وحالات نفسية  تتحقق نتيجة لمجاهدات  روحية شاقة، تغالب فيها العقبات والصعاب . بدأت الرحلة ألوف  الطير، لكن معظمها هلك في الطريق، غرقا أو ضمأ، أو انشغل  بما رأى ، أو ركن إلى الدعة، ولم يصل منها ، إلى "السيمرغ" إلا ثلاثون طائرا. و"السيمرغ" طائر أسطوري، واسمه يعني ثلاثين طائرا (سي/ مرغ).
     تتضمن الملحمة مئات من القصص الجانبية، فالهدهد يستعين بالقصص لإقناع الطيور المترددة، مثلما ما حدث له مع البلبل، حين جاء معتذرا، لأنه لا يستطيع أن يقضي ليلة واحدة وهو خال من عشق الوردة :
" فكيف يستطيع البلبل أن يقضي ليلة واحدة
وهو خال من عشق مثل هذه الوردة الضاحكة ؟
فيجيبه الهدهد متهما إياه بالتوقف عند الصورة الظاهرة، فجمال الوردة مآله الزوال:
فمع أن الورد صاحب جمال وافر
فحسنه في سبعة أيام يصيبه الزوال.
وعشق ما نهب للزوال، على هذه الصورة الواضحة،
لا يخفى أن أهل الكمال يكون لهم منه ملال."  
ويسترسل الهدهد في الحديث عن حكاية "في هذا المعنى"، محدثا البلبل، عن ابنة أحد الملوك التي أفقدت الدرويش روحه ورغيفه. وعندما يأتي الببغاء ليعتذر:
" فكيف أنطلق على الطريق وكأنني مجنون‍
وكيف أطوف بكل مكان مثل المشرد ؟
فلست أملك الطاقة على القرب من "السيمرغ…"
فيجيبها الهدهد:
"أن كل من  لا يبذل الروح لا يكون من الرجال"
ويأتي بحكاية المجنون والخضر، وهكذا؛ فكل الأعذار تستوجب الرد والتأكيد بالحكي، فكلما جاء طير ليعتذر لسبب من الأسباب عن عجزه عن المشاركة في المسيرة، إلا أقنعه الهدهد بنقص فكرته وبأهمية التضحية، ويستعمل في ذلك جميع الوسائل ، بما في ذلك الحكايات والقصص، إلى أن يقنعها بالرحلة، للوصول إلى الهدف:
  " لقد ارتحلت سنين فوق الأودية والجبال
وصرفت فوق الطريق عمرا طويلا…
وفي نهاية الأمر، واصلت السير قلة من ذلك  الجيش…
إلى ذلك المقام الرفيع.
إن قلة من جموع الطير وصلت إلى ذلك المكان.
فمن كل بضعة ألوف وصل إلى هناك طائر واحد."
ويصف حالة الطيور عند وصولها إلى مقام "السيمرغ"، وتعجبها مما رأت، يقول:
"إنه عالم الطير الذي سلك  الطريق
لم يصل منه إلى ذلك المقام سوى ثلاثين طائرا،
ثلاثين جسدا عليلا مرهقا…
كانت كسيرة القلب، وصارت أرواحا واهية الجسد ‍‍‍‍‍،
فرأت حضرة فوق…
أسمى من العقل والإدراك والمعرفة‍.
وكان برق الاستغناء، كلما أشرق،
يحترق في كل لحظة مائة عالم .
         . . .
وأبصر الجمع ذلك فتولتهم الحيرة،
وأصبحوا مثل الذرات المتراقصة‍.
وهتفوا جميعا :"واعجبا‍، ما دامت الشمس
أمام هذا المقام ذرة ممحوة.
فكيف سنبدو نحن في هذا المقام ؟.."
     مما لا شك فيه أن جميع القصص التي اتخذت من "المعراج" موضوعا لها ، في الأدبين العربي والفارسي، " قد تأثرت، بشكل من الأشكال ، بمعراج الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى سدرة المنتهى…ومما لا شك فيه ، أيضا، أن جميع أدباء الغرب الذين تحدثوا عن المعراج، في أعمالهم الأدبية، قد تأثروا..بهذا التراث الفكري الإسلامي."  ومن الذين  نظموا في هذه القصة، في الأدبين العربي والإسلامي:
-    معراج أبي يزيد البسطامي، الملقب بـ"سلطان العارفين"(ت.261 هـ)، ترجمه إلى الفارسية فريد الدين العطار في "تذكرة الأولياء".
-    "رسالة الطير" لابن سينا ، كما سبقت الإشارة، ويرمز فيها ابن سينا إلى المقامات التي يجب أن يقطعها السالك، بالجبال، وجعلها ثمانية، والمتصوفة يعتبرون المقامات سبعة.
-    "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري (ت.449 هـ).
-     "سير العباد إلى الميعاد" لسناني الغزنوي (ت. 545 هـ).
-    "جاويد نامه" و"رسالة الخلود" ، للعلامة محمد إقبال، رحمه الله ، والأخيرة من أعظم أعماله. يعالج فيها وضع الأمة الإسلامية، ويسخر من الاستعمار. وتقوم فيها روح جلال الدين الرومي بدور المرشد لإقبال. وينتهي المعراج بأن يصل إلى الحضرة الإلهية، ليأمره صوت قوي بالعودة إلى الأرض .
-    ولابن سينا نص آخر يدعى "معراجنامه"، ولابن عربي "الأسرار إلى المقام الأسمى". وجل هذه الأعمال ترجمت إلى اللغات الأوربية .
     ويذكر عيسى الناعوري، أن الرحلات إلى العالم الآخر، قديمة نجدها عند هوميروس في الإلياذة والأوديسة ، وفرجيل الروماني في ملحمته "الإنياذة"، وهي رحلة إلى العالم السفلي. وشيبيون، والقديس يوحنا في رؤياه . ويمكن إضافة "الفردوس المستعاد"، و"الفردوس المفقود"، للشاعر الإنجليزي "جون ملتون " (John Milton).

شايلوك: إذن، فإني أقبل ما يعرضه، ليؤد ثلاثة أمثال الصك، ولينصرف المسيحي لحال سبيله."   لكن القاضي الشاب (بورشيا؛ زوجة بسانيو)، ترفض إلا أن يطبق الصك بنصه، مما دفع باليهودي بأن يتنازل في الأخير على جزء من ثرواته لصالح "لنطونيو"، مقابل إخلاء سبيله. وهكذا يتضح عنصرية اليهودي ، كما تصوره المسرحية، تجاه غيرهم (الأغيار)، كان مسيحيا أم لم يكن .
7- التأثير العربي الإسلامي في شعر "غوته" و"بوشكين" :
أ-"غوتـه"  )1749- 1832)
     يقول غوته: "درست تاريخ الأديان على مدى خمسين عاما، وإن العقيدة التي يُرَبى عليها المسلمون لتدعو لأعظم دهشة!!…إن الإسلام هو الدين الذي سنقر به جميعا إن عاجلا أو آجلا…وأنا لا أكره أن يقال عني إني مسلم." 
     لقد كان غوته من أعظم الشعراء الألمان ، تأثر بالإسلام تأثرا شديدا، وكانت معرفته بالقرآن معرفة وثيقة. نظم قصيدة رائعة أشاد فيها بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، و"حين بلغ السبعين من عمره. أعلن أنه يعتزم أن يحتفل في خشوع بتلك الليلة…التي أنزل فيها القرآن الكريم على النبي. وبين هاتين المرحلتين امتدت حياة طويلة، أعرب الشاعر خلالها بشتى الطرق عن احترامه  وإجلاله للإسلام."
     في سن الثالثة والعشرين من عمره، نظم "غوته" قصيدة "أغنية محمد"، بإسلوب مناجاة بين علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، وفاطمة زوجته، بنت رسول الله ، صلى الله عليه وسلم. نشرت القصيدة في ديوان"خيال وواقع"، يقول فيها:
" اُنظروا المنبع الصخري
مشعا بالبهجة
كأنه ومضة نجم
وما فوق النجوم
تقترب من شبابه…" 
     يضم  "الديوان الشرقي  للشاعر الغربي"، الذي نشره عام 1819 م، الكثير من الصور المجسدة، عن حياة العرب والمسلمين، والاستشهاد بأقوال وأوصاف ونماذج من القرآن الكريم، والشعر الجاهلي والإسلامي، حتى أن "هيغل"، اعتبر هذا الديوان تحولا للشاعر إلى الشعر الفلسفي. كما استخدم الأسلوب القصصي متأثرا بـ"ألف ليلة وليلة" . تقول "كاترينا مومزن" : "وفي الفصل الأول من القسم الثاني من فاوست، يوجد كذلك الكثير  الكثير من المؤثرات   التي تعود أصولها إلى ألف ليلة وليلة. فهناك، مثلا موضوع استخراج الكنز المدفون في باطن الثرى… وفي نهاية الفصل الخاص بالمناظر السحرية، التي  رافقت تنكر الأشباح ، أثنى جوته على "ألف ليلة وليلة"، وأشاد بشهرزاد."
  يقول غوته على لسان قيصر:
  " أي حظ طيب هذا الذي قادك إلى هنا
مباشرة من ألف ليلة وليلة ؟
لو استطعت أن تتشبه بشهرزاد في خصوبة عطاياها،
لوعدتك وعدا صادقا بأسمى الهدايا…" 
     لم يكتف "غوته" بالتأثر بالتراث العربي الإسلامي، بل ترجم الكثير من شعر المعلقات، يقول في رسالة موجهة لأحد أصدقائه ( كارل فول كنيبل):"…وهذه القصائد في جملتها تدعو للدهشة والاستغراب، كما أنها تشتمل على مقاطع بعضها محبب إلى النفس. ولقد قررنا تقديمها للمجتمع مترجمة، ومن ثم فسوف تطلع أنت أيضا عليها."  فالقصائد التي يتحدث عنها هي المعلقات العربية، والتي كان قد ترجمها "وليم جونز" (1746-1794)، وفي عام 1783 صدرت هذه المعلقات بالحرف العربي المطبوع باللاتينية، مرفوقة بترجمة "جونز"، وهذا ما دفع غوته إلى ترجمتها من  الأنجليزية إلى الألمانية. ومهما كان الخلاف قائما حول صدور هذه الترجمة أو عدم صدورها، فإنه من المؤكد أن غوته قد ترجم بعض أجزاء هذه المعلقات. ومن القصائد التي حاول ترجمها، معلقة امرئ القيس، وهذه بعض الأبيات له، مرفوقة بتلك الترجمة، كما أوردتها "كاترين مومزن":
"1- قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل          بسقط اللوى بين الدخول فحومل
قفا ودعونا نبك هنا في موضوع الذكريات ، فهناك بمنقطع الرمل المعوج، كانت خيمتها وقد أحاطت بها خيام القوم.
2- فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها          لما نسجتها من جنوب وشمأل
لم يعف رسمها بعد تماما بالرغم مما نسجته عليها ريح الشمال وريح الجنوب من رمال متطايرة.
3- وقوفا بها صحبي علي مطيهم          يقولون لا تهلك أسا وتجمل
ووقف صاحباي رابطي الجأش يعللانني قائلين لا تهلك من شدة الجزع وتجمل بالصبر…"
     ولا يمكن لغوته ألا يتأثر بهذا الشعر وقد  نال منه كل هذا الإعجاب، كما تأثر ، أيضا، بحافظ الشيرازي، الذي تعرف عليه من خلال ترجمة "هامر" لأشعار هذا الأخير،عام 1814 ، في "كتاب زليخا"، يقول:"علاوة على حافظ، السابق ذكره، فقد أعرنا ، عموما ، الشعر وغيره من الآداب الشرقيةأذنا صاغية، وذلك بدءا من المعلقات، والقرآن الكريم، وانتهاء بجامي والشعراء الأتراك…"  هؤلاء جميعا ، على حد تعبير "مومزن" ، رصدت لهم مؤثرات في قصائد "الديوان الشرقي.
     يفتتح الشاعر الألماني ، ديوانه بقصيدة ، يقول في مقدمتها:
" هجرة
الشمال والغرب والجنوب تتحطم وتتناثر،
والعروش تثل والممالك تتزعزع، وتضطرب
فلتهاجر إذا إلى الشرق الطاهر الصافي.
كي تستروخ نسيم الآباء الأولين،
هناك حيث الحب والشرب والغناء،
سيعيدك ينبوع الخضر شابا من جديد،
إلى هنالك ، حيث الطهر والحق والصفاء."
     ففي وصفه لأوضاع العالم الذي يعيش فيه، يوضف صورا ، هي أقرب إلى الصور القرآنية "الشمال والغرب والجنوب". يقول عز من قائل:" وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا." الآية.
ويقول أيضا:" وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا" الآية.
فغوته، يحس بغرابة الواقع الذي يعيش فيه، وبأنه هو نفسه، غريب، وكأنه يريد أن يشبه نفسه بأهل الكهف، حين عادت إليهم الحياة، فالغرب مضطرب، ولا مفر من الهجرة إلى الشرق منبع الحب والطهر والحق والصفاء.لا بد من الهرب، من الجحيم (الغرب)، إلى الجنة. كما تحضر النظرة الحالمة إلى الشرق، ذلك الشرق الذي تصوره "ألف ليلة وليلة" ؛ شرق الحب والغناء والشرب.أما الغرب ، فهو لابد سائر للزوال والهلاك .يقول تعالى:" فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ" .
 ويقول الشاعر:
  "لله المشرق
  لله المغرب
رحاب الشمال والجنوب
مستقرة بسلام بين يديه."
     وتأثير الآيتين الكريمتين، من سورة البقرة، واضح  في تعبير غوته. يقول تعالى:
الآية الأولى: "وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ."
الآية الثانية: " سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ."
     أما تأثره بحافظ الشيرازي، فهو بين في كثرة ورود اسمه في أشعاره، يقول:
" أي حافظ ! إن أغانيك لتبعث السلوى…
وإنه ليحلو لي، أي حافظي الأقدس، أن أحيي ذكراك
عند الينابيع، وفي حانات الصهباء."
ب- بوشكين :
     من أكبر شعراء روسيا في القرن التاسع عشر، وأكثرهم حبا للشرق العربي وتأثرا به.  تأثر، أيضا ، بغوته، قرأ القرآن الكريم. عاصر فترة ازدهار الاستشراق في روسيا. تعرف على "ألف ليلة وليلة"، وقصة "مجنون ليلى" ، من خلال مجلة "المخبر الآسيوي"، التي كان يصدرها "جريجوري سباسكي"، مكرسة خصيصا للشرق، وترجم فيها الكثير من التراث الأدبي العربي والفارسي، كشعر الغزل. من أشهر أعماله قصة "روسلان ورزدميلا"، وهي قصة حب ملحمية. كتب مجموعة "قبسات من القرآن عام 1824 م، مستوحاة من القرآن الكريم، وتتكون هذه المجموعة من تسع قصائد، تعتبر من أهم أعماله ؛ جماليا وفكريا. يقول في القصيدة الأولى:
" أقسم بالشفع وبالوتر،
وأقسم بالسيف وبمعركة الحق،
وأقسم بالنجم الصباح،
وأقسم بصلاة العشاء." 
     ويصور قصة خروج الرسول صلى الله عليه وسلم، مهاجرا إلى المدينة ، كما ذكرت في سورة التوبة، إذ يقول عز وجل :" إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيم." الآية.
يقول بوشكين :
"يا من في ظل السكينة
دسست رأسه حبا
وأخفيته عن المطاردة الحادة…" 
     فهو يستلهم القرآن الكريم في كل قبساته، فحول الآية (53)، من سورة الأحزاب، التي يقول فيها عز وجل :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا" .
يقول، مستلهما هذه الآية الكريمة:
"إيه يازوجات الرسول الطاهرات
إنكن تختلفن عن كل الزوجات:
فحتى طيف الرذيلة مفزع لكن.
في الظل العذب للسكينــــة
عشن في عفاف. فقد علق بكن
حجاب الشابـة الـعــذراء .
حافظن على قلوب وفيــــة
من أجل هناء الشرعيين والخجلى،
ونظرة الكفار الماكرة
لا تجعلنها تبصر وجوهكن.
أما أنتم ، ياضيوف محمد
وأنتم تتقاطرون على أمسياته،
احذروا فبهرجة الدنيا
تكدر رسولنا.
فهو لا يحب الثرثارين
وكلمات غير المتواضعين والفارغين…"
ويستلهم في قصائد كثيرة مشاهد قرآنية ، كمشهد القيامة في سورة عبس، وغيرها من السور الكريمة.
     وقد وظف بوشكين، أيضا، عناصر الغزل العذري في الشعر العربي، مثل ما، فعل في قصيدة "يافتاة ياوردة، إنني في الأغلال"، وغيرها من القصائد، الكثيرة التي لا يسع المقام هنا لجردها كلها.
خاتمــة :
    إن ما تم تناوله، في نثرات، فيما سبق، من هذه العجالة المتواضعة جدا، لا يمكن أن توصف إلا على أنها لا ترقى إلى أن تكون نقطة في واد، إن لم نقل "ذرة"، لأن الإحاطة  بالموضوع؛ أي تأثير الثقافة العربية الإسلامية في ثقافات الشعوب التي احتك بها المسلون، أو التي انتقل إليها تراثهم عن طريق الترجمة، أو الاطلاع،أو أي وسيطة أخرى من وسائط انتقال الثقافات، يحتاج إلى سنوات من الجهد المتواصل، كما يحتاج إلى تحبير أسفار، يعجز أن يقوم به الفرد الواحد. فقد امتدت هذه الثقافة، في أزهى عصورها، لتغزو ، غزوا جميلا،  بسماحتها وبرسالتها الانسانية، ثقافات أكبر القارات وأكثرها كثافة سكانية. بل لقد كان لتأثير هذه الثقافة دور حاسم في نهضة أوربا نفسها. يقول بوشكين، حول تأثير الشعر العربي في الشعر الأوربي:"هناك عاملان كان لهما تأثير حاسم على روح الشعر الأوربي هما : غزو العرب، والحروب الصليبية. فقد أوحى العرب إلى الشعر بالنشوة الروحية ورقة الحب، والولع بالرائع والبلاغة الفخمة للشرق…هكذا كانت البداية الرقيقة للشعر الرومانتيكي."
     ولا يقتصر الأمر على المواضيع التي تمت مقاربتها، وإن بهذا الشكل المتواضع، بل إنه يشمل جل مجالات الحياة الأخرى، فالألفاظ العربية تنتشر في الفارسية والتركية والهندية والأردية، والأمازيغية، فيما يخص العالم الإسلامي، كما تنتشر في اللغات الأوربية، والآسيوية، وأوربا الشرقية،  والأطعمة ، وغيرها من أساليب الحياة الأخرى.
                                                                       والله الموفق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق