الأربعاء، 4 يونيو 2014

رجل ونصف (قصة)




      وقف داندان وسط المقهى، جال ببصره في أرجائها يتفحص الجدران والوجوه. كان يفكر في الطريقة التي سيحل بها أزرار سرواله ، ليؤكد لخصمه رجولته. إنه رجل . عنده ما عند كل الرجال وزيادة. قال صاحب الطربوش الأحمر : سيفعلها السفيه. قالت صاحبة الوجه المستدير: إن فعلتها لن تلج هذا المكان طيلة حياتك إن بقيت على قيد الحياة. هز صاحب "السبسي" علبة الثقاب في وجهه، وصرخ: إن فعلتها، سأقطع أيرك قطعا صغيرة، وأطعمها لك. أشاح داندان بوجهه جهة النافذة. كانت مجموعة من نساء "الموقف"، يراقبن المشهد من خلف الزجاج في شوق. لا شغل لهن إلا لوك القيل والقال. سحب الرجل قدميه بتثاقل وهو يفكر في شيئه الذي سيتحول إلى قطع منفرة، لا يملك حتى أسنانا لمضغها. اتجه إلى صاحب "السبسي". أشار إليه أن يملأ له "شقفا". نهره الرجل . طلب منه أن يسوي من وضع سرواله، واشترط عليه دفع ثمن براد شاي منعنع في جلسة على الحصير. انصرفت النسوة بعد أن يئسن من رؤية رجولة داندان. قالت إحداهن: لو كان رجلا لفعلها. قالت أخرى: داندان  رجل، لقد رأيته يتبول على السور. قالت بائعة الأطباق: الكلاب وحدها تتبول على الجدران. لو كان رجلا لأرانا ...قالت إحداهن، وهي تضع كفها على فمها: آويلي حشمي آلـ... طلب داندان براد شائ مجمر بالنعناع، وجلس القرفصاء على الحصير. إلتحق به صاحب السبسي. ملأ له شقفا. أمسك داندان بالسبسي، أشعل محتواه بإصبعي اليد نفسها التي يمسكه  بها ليظهر براعته. نفث دخان الكيف في الهواء. انتشى ، وقذف بالجمرة نحو حفرة وسط المقهى كأنه لاعب "كَولف" محترف. تشف. سقطت الجمرة وسط الحفرة المبللة وانطفأت. تشف. ابن الزانية. لو كنت رجلا بحق لكنت "فرعته" لأريه معنى الرجولة. أنا رجل ونصف. لولا الرجال لأريته رجولتي. إنه لا يعرف حق الرجال. تجمعت النسوة مرة أخرى أمام النافذة، يراقبن ، بعد سماعهن لصوت داندان. مده صاحبه بالكيف، عبأ "شقفا" آخر. أوقد محتواه بالطريقة نفسها، ونفث الدخان في الهواء. تنهد. "آحِّي على رجال اليوم".نظر جهة النافذة. رأى تلك التي رأته يفعل ذلك الشيء على السور. ابتسم. ابتسمت. غمز لها بعينه الحولاء.احمرت وجنتاها ، وأشاحت بوجهها تخفي ابتسامة ماكرة. رجل ونصف. لولا هذه الوجوه لأريته رجولتي. رأى ، فيما يرى من تسربت إلى رأسه بعض الدوخة ، أنها تطلب منه أن يريهم رجولته. قالت : هيت لك. ورأى نفسه ، وسط سحابة الدخان ، رجلا ونصف. قال هذه فرصة العمر. سيجعل الحي كله؛ رجاله ونساءه، يشهد على رجولته. رأى نفسه وإياها وسط حقل شعير تكاد سنابله الناضجة الصفراء، تتجاوز المناكب. لا أحد يراقبهما ، غير تلك الأتان التي ألف حدوها إلى عطفة قصية من الوادي. هذه أنثى وتلك أنثى، ووحده الرجل ، بل رجل ونصف ، ولم لا رجلان في واحد. والرجل أمام أنثيين، وثالثهما نصف رجل، بل رجل . أو هو كل ما في الرجل. تسارعت دقات قلبه. صهد الظهيرة يرفع من حرارة جسده. ظل ناظرا إلى الأنثيين. انحدرت على جبينه بعض حبيبات العرق. إزداد العرق. ازدادت حرارة جسمه، وازدادت معهما دقات قلبه. نظرت الأنثى الآدمية في عيني الأنثى العجماء، فرأت بريقا لامعا يدعوهما إلى الغواية، همت العجماء بالآدمية، وهمت الآدمية بالعجماء، وهم بهما داندان، وهمتا به. قذف داندان بالسبسي إلى سقف المقهى، أمام دهشة الجميع واستغرابهم، اتجه إلى الحفرة التي كانت تنزل فيها جمرات الكيف قبل قليل ،وقف قبالة النافذة. حل أزرار سرواله ، وتركه  يهوي فوق قدميه. أنظر يا ابن الزانية. داندان رجل ونصف. أنظر أولد...وفي لحظة ما، لم يدر فيها؛ أهو في الحلم أم في اليقظة  ، انثالت عليه العصي والقناني والكراسي. المقهى كله انقلب على رأسه، حتى الذين كانوا في الخارج  ، الكل قام بواجبه ، كل وما ملكت يده آن "الحرْكَة" ، ولم يسلم حتى من أيدي النساء اللائي كن اكتفين بالتفرج إلى حين هوى على الأرض، وخلا لهن الجو. حتى التي رأته يفعل ذلك على السور. حتى أنت ألـ...

قصة



خِرْبَة الخثير

      الزمن خاثر..الجو خاثر..الأرض خاثرة ، والنفس خثيرة، فما الذي يجعل هذه الخثورة تكتنز كل هذا الكم من اليأس والألم ؟ أليس الخثير ككل الناس؟ ألم يشارك أهل الدوار ، وأهل الجماعة موسم زيارتهم، هذه السنة لمولاي إدريس ؟ ألم يحمل معه ملعقته، مثله مثل أقرانه، في جيبه قاصدا العين ؟ شجرة الموز السامقة شاهدة على ذلك. وفضمة ؟ ألا يمكن أن تقدم شهادتها بدورها ؟ ولماذا يصر الشيخ السي ميمون على أنه لم يحضر، لأنه فقط، لم يره بأم عينيه.
     كان اهتمام الخثير في تلك الصبيحة، منصرفا إلى المطاردة، فما إن تناول بعض الملاعق من الكسكس، حتى انسل من مكانه دون أن يثير أي انتباه، قاصدا العين الفوقية ، لأنه يعرف أنها ..أو ربما لمحها..أو أشارت إليه.أو..أو...
     صعد إلى أعلى شجرة الجوز، ومن فرجات أغصانها وأوراقها الكثيفة، أخذ يراقب. يراقب حركاتها، ويتتبع سكناتها. كانت تحس أنه هناك، أو ربما كانت تعلم، وكأن بينهما اتفاق مضمر. لم تكن تولي اهتماما لما كان يدور حولها؛ حديث الفتيات ولغطهن، وهن يملأن جرارهن، أو يغسلن أقدامهن البضة، أو يتسابقن حول من تملأ إناءها قبل الأخرى. كانت منشغلة، وكان منشغلا بدوره. تعرف أنه هناك في مكان ما ، يراقبها من دون أن تتمكن هي من مراقبته. لكن تعرف أنه هناك، وهو بدوره يعرف أنها تعرف. كان يخشى من انكشاف أمره، فبروزه إلى الفتيات بتلك الطريقة ستكون عواقبه وخيمة. الرجال منهمكون هناك على الكسكس واللفت. ملأت سطلا وبدأت ترش ماءه على قدميها البضتين، ثم ساقيها، رفعت التنورة قليلا. تأمل الساقين، وبان له جزء من فخذ كأنه اللؤلؤ، فسال لعابه، وانتفضت غريزته، وانتصب عفريته.  طمأنه الشيخ، إلى أن ما حدث له كان يمكن أن يحدث لغيره، وممكن حدوثه لأي شخص، ولو كان عاقلا، أو يملك بعض عقل لتجنب كل ذلك، ولكفى نفسه وغيره شر هذه المصيبة. وها أنت ترى النتيجة قال الشيخ . رجل بلا رجولة. أو رجل فقد جزءا من رجولته. من سيقبل بك زوجا ؟ عليك أن تهاجر إلى مكان لا يعرفك فيه أحد . وحتى إن رغبت الزواج من سيتزوج برجل أشبه بعنين، هل تستطيع أن تكون أسرة. أن يكون لك خلف، رجل بلا خلف.أنت لست رجلا ولا نصف رجل ولا حتى ثلثه. المرأة تريد رجلا كاملا، ولا تقبل برجل بدون..ها أنت رأيت النتيجة، جئت بملعقة تأكل بها الكسكس، فاستعملت الملعقة لتخريب أحشائك. احمد الله أنهن وجدن في جيبك ملعقة فقط، لو أنك كنت تحمل عصا مثلا أو سكينا ، أو لا قدر الله،  محراثا، ماذا كان سيكون مصيرك، بل مصير أحشائك. تخيل لو أنك كنت تحمل مقص جز صوف الأغنام، أو فأسا،أو رفشا، ماذا كان سيحدث لأعضائك ؟ تستطيع أن تخمن ذلك، وتحمد الله على القليل الذي حدث.ما الذي دفع بك بأن ترمي بنفسك إلي هذه التهلكة ؟
     كان الخثير لا يزال فوق الجوزة، يتأمل ، ويتأمل ، واللعاب يسيل . اليدان تشرشران الماء على الساقين، ثم رأى الفخذ اليمنى، فاليسرى، أو جزءا من اليسرى. قهقهات الفتيات تتسلل إلى دواخله، فتوقظ حتى الأرض الموات ، وتدوزن أحشاءه غير المدوزنة. الجو حار. رائحة أوراق الجوز تنفذ حادة إلى خياشيمه، فتزيد من حرارة دمه وتدفقه. انتشرت الحرارة في كل أعضائه وأطرافه، ما عاد قادرا على التحكم في شيء. انفلت زمام أمره. عيناه تتابعان حركات فضمة، يديها، عجيزتها المكتنزة، فخذيها، ساقيها، فيلتهب. الماء ينساب على أطرافها فيزيده حرارة والتهابا. نفذ ببصره إلى ماخلف ثيابها، فتراءت له عارية كما ولدتها أمها، فرأى فيما يرى النائم، أن غدران جسدها، ثنياته ، تناديه ؛ أن أقبل ، هذا من فضل ربك فخذه طريا.هيت لك وهيت.. نسي الخثير وضعه على الشجرة. تحرك قليلا عله يجد وضعا أفضل ، ومريحا، يسمح له برؤية أوضح، فإذا بالغصن الذي يتكئ عليه يهوي به، وما بين الغيبوبة واليقظة، تراءت له ظلال أشباح تدور حوله، وهي نزغرد تارة، وترقص تارة أخرى، وسمع أصواتا حادة لا تكاد تتوقف، أحس بالأيدي تعبث بأعضائه. كانت رائحة ملفوظات أمعائه تزكم أنفه. قالت إحداهن:إنه كان يتجسس علينا. قالت أخرى:هذا الشقي ليس رجلا، لو كان رجلا لكان مع الرجال في الضريح. اقترحت إحداهن قطع أيره. صرخت إحداهن: أنظرن ماذا وجدت في جيبه. إنها ملعقة، أتعرفن لم تصلح هذه الملعقة ؟ قهقهن، ارتفعت ضحكاتهن، وأحس بألم حاد في مؤخرته، وبشيء بارد يعبث بأمعائه. ارتفعت الضحكات التي لم تتوقف. حاول أن يرفع جذعه فلم يتمكن. أخذت الأصوات تغيب شيئا فشيئا، وتبتعد، وخلفها طنين صم أذنيه، وسرى في جسده ارتخاء لم يعهده. أحس بنفسه يهوي في حفرة لا قرار لها، ورأى العالم من حوله ينسرب في غبش هولامي. صار جسده خفيفا. خفيفا.خفيفا. واه. تخلص من ثقل جسده. لو أنه يستطيع أن يتخلص من هذا الثقل إلى الأبد.
     أنظر ماذا كانت النتيجة ؟ قال الشيخ. أنت الآن مخرب. أنت رجل مخرب، لا تصلح لشيء. الفضيحة تطاردك. عليك أن ترحل عن هذه الأرض. هل تستطيع أن تعرض خرابك على مرأى من الناس.  في المحكمة سيطالبونك بالكشف عن مكان الضرر،في القيادة، سيسخر منك رجل القوات المساعدة، في مقر الدرك، عند قاضي التحقيق، إلى متى ستبقى تعرض خرابك بهذه الطريقة المذلة لرجولتك. عليك بالرحيل.
     كان الألم الحاد ما يزال يعتصر أمعاءه. حمل رجليه في تثاقل، وولى وجهه قبل الحدود الشرقية. كان جسمه ثقيلا، أحس معه وكأنه يحمل على ظهره أكياسا مكدسة من أوزار سلالة هذا الدوار وهذه الجماعة .