الجمعة، 25 أبريل 2014

مناهج المستشرقين في فهرسة التراث العربي الإسلامي
(نموذج "تاريخ الأدب العربي" لكارل بروكلمان)
                                                                   عبد الواحد عرجوني

      حظيت الدراسات الاستشراقية، وأعمال المستشرقين، التي غطت معظم الإنتاج الفكري والأدبي العربي الإسلامي، بالإضافة إلى القرآن الكريم والسنة النبوية والسيرة، باهتمام الدارسين العرب إلى درجة يصعب معها حصر كل ما كتب حول الظاهرة، بدرجة الصعوبة نفسها التي واجهت هؤلاء في محاولاتهم حصر تلك الإسهامات، التي غدت، كما يذكر الدكتور علي بن إبراهيم النملة في مؤلفه:"إسهامات المستشرقين في نشر التراث العربي الإسلامي" "من مصادر المعلومات عن الإسلام والمسلمين"، والتي حصرها (الإسهامات) في خمسة مجالات، هي؛ البحث عن المخطوطات والرحلة إليها وجمعها ونقلها، وفهرستها وتوثيقها وضبطها "وراقيا" أي "بيبليوغرافيا"، والتحقيق، والدراسة، والترجمة.
     واختلفت دوافع هذا الاهتمام،  باختلاف الأشخاص والغايات، بدءا بالأسباب التي لم تخل، في مستهلها، من أهداف دينية وحضارية وثقافية، تنضح بها المفاهيم (الشرق والاستشراق)، ثم استعمارية، فعلمية أخيرا.  
      وتجنبا للدخول في متاهات الأسئلة والإشكالات التي أثارتها الظاهرة، عند المهتمين من الجانب العربي الإسلامي، تخص بدايتها، والمناهج التي اتبعها المستشرقون، ومواقفهم، منصفة كانت أم غير منصفة، والأهداف والخلفيات التي صدروا عنها، تجدر الإشارة إلى إثارة الانتباه إلى الملاحظة التي أبداها الأستاذ أحمد شوقي بنبين في مقالة له بمجلة دعوة الحق (ع.281)، وهي أن فهرسة المخطوطات العربية التي تم تجميعها، في البداية بطرق مختلفة- بلغ بعضها حد القرصنة، مثل ما حدث مع المكتبة السعدية بسواحل المغرب- ونقلها إلى المكتبات الأوربية، لم تتم على أيدي المستشرقين الذين اهتموا في البداية بدراسة اللغة العربية وتدريسها، وتأليف الكتب حول علومها، بل مارسها المشارقة، وفي غالبيتهم، كانوا يتقنون اللغة العربية واللغات السامية الأخرى والهندية الأوربية، ومعظم هؤلاء كانوا من الموارنة اللبنانيين الذين نزحوا إلى روما لدراسة اللاهوت، أواخر القرن السادس عشر الميلادي، فأصبحوا من العلماء الكبار في الكنيسة الكاثوليكية، ورحل بعضهم إلى فرنسا. وكان هؤلاء من أوائل من قاموا بفهرسة مخطوطات الخزانات الأوربية، ومنهم؛ بطرس دياب الحلبي مفهرس الخزانة الملكية الفرنسية ، وباروت السوري بعده، والأب يوسف العسكري. وفي إيطاليا قام بالعملية أفراد من أسرة "السماعنة" المارونية، فوضع يوسف شمعون أول فهرست لمخطوطات الفاتيكان، ثم خلفه ابن شقيقه عواد السمعاني. وفي إسبانيا اعتبر ميخائيل الغزيري أول من فهرس خزانة دير الإسكوريال (طبع بمدريد في جزأين،ما بين 1760 و1770)، وجاء بعده، بعد أكثر من قرن، الألماني الأصل والفرنسي "هرتويج دارنبور" (Hartwig.D.) ليحاول استكماله والاستدراك عليه، فأصدر جزءا من هذا العمل في باريس سنة 1884 ، إلى أن جاء "ليفي بروفنسال"(1956)، ليقوم باستكماله في الفقه والجغرافيا والتاريخ على منهج سلفه، كما يذكر محمد الكتاني في "مطارحات منهجية حول الأدب والنقد وعلاقتهما بالعلوم الانسانية،ص239).
      ومع تكاثر هذه المخطوطات، وازدياد الرغبة في الاستفادة منها، خدمة للأغراض الاستعمارية، قامت الدول الأوربية في القرن التاسع عشر بالإشراف على تكوين علماء في مدارس متخصصة في اللغات الشرقية، وكانت الخطوات الأولى التي قام بها هؤلاء، قبل عمليتي؛ التحقيق  والنشر، هي الفهرسة العلمية لما تم جمعه، بغاية الوقوف على تاريخ أهلها وحضارتهم، والمسح الكامل لما أنتجوه، هذا المسح الذي سيمكن من المعرفة التي ستمكن، بدورها، أوروبا المتحضرة من السيطرة على أمم هذا الشرق "العظيمة"، بحسب مبدأ "بلفور" في محاظرته التي استهل بها إدوارد سعيد كتابه "الاستشراق". فصدرت مجموعة من الفهارس مكتوبة باللغات الوطنية الأوربية، على شكل كتب مطبوعة أو مقالات نشرت في مجلات متخصصة.
     ورغم نية الاقتصار على نموذج حديث، نسبيا، من هذه الفهارس، فإن ذلك لا يمنع من الإشارة إلى نماذج أخرى، بالإضافة إلى الأعمال العربية التي حاولت حصر الإنتاج الاستشراقي بدورها، بغاية المقارنة. والنموذج هو : "تاريخ الأدب العربي" لكارل بروكلمان"، الذي لا يمكن لأي دارس، عربيا كان أم أجنبيا، تجاهل مدى أهميته، وتأثيره فيمن جاء بعده من العرب والعجم. وهذا لا يعني تجاهل فهارس أخرى لها من الأهمية، ما تعجز هذه العجالة عن الإحاطة بها كلها.
     وتجدر الإشارة، إلى عملين عربيين، حاول فيهما صاحباهما حصر أعمال المستشرقين، وتصنيفها، هما: "موسوعة المستشرقين" لعبد الرحمان بدوي، ويتكون من جزء واحد في أربعين وستمائة صفحة، اعتمد فيه المؤلف على مدخل اسم شهرة المستشرق، ورتبه ألفبائيا، وهو أقرب إلى المعاجم الخاصة بالمؤلفين. أما العمل الثاني، وهو أضخم حجما وأدق تنظيما، وأقرب إلى العمل البيبليوغرافي، فهو كتاب "المستشرقون" لنجيب العقيقي، ويتكون من ثلاثة أجزاء، بلغ عدد صفحاتها أربع عشرة وأربعمائة وألف صفحة، اعتمد فيه صاحبه مداخل متعددة بحسب بلدان المستشرقين، ومدى مساهمة كل بلد من نواح مختلفة تخص المكتبات والأسماء والمؤلفات مع وصفها، وقد خص الفصل الخامس والعشرين للبنانيين. يقول في إحدى صفحاته (1124) واصفا منهج الفهرسة عند هؤلاء أي المستشرقين:" ولم يقفوا من تراثنا عند جمعه وصونه بل بادروا إلى فهرسته، حيثما وجدوه، فهرسة علمية دقيقة، في مجلدات عديدة مجددة منقحة، تناولت غالبيتها أسماء المؤلفين وأقدارهم، وإحصاء مؤلفاتهم بين مطبوع ومخطوط مع ذكر مكانه، وأصالة المخطوط، ونسبته إلى صاحبه، وتاريخ نسخه، ومزاياه، ونوع الورق، والحجم وعدد الصفحات والسطور..."
     يتفق كل المهتمين، بأن كتاب "بروكلمان" (1868-1956) "تاريخ الأدب العربي"، من أهم ما وضع في مجاله، بعد كتاب المستشرق النمساوي "يوسف هامر بورجشتال" (j.Hammer Purgstall) "تاريخ الأدب العربي إلى القرن 12" المطبوع في فيينا عام 1850م في سبعة أجزاء. إلا أن هذا الأخير في نظر "بروكلمان"، كما يشير الأستاذ أحمد بوحسن (العرب وتاريخ الأدب نموذج كتاب الأغاني،ص:118)، "لم يكن على علم كاف بالعربية، كما أن أهم مصادر تاريخ الأدب لم تكن قد عرفت بعد في زمانه" (تاريخ الأدب العربي، مقدمة المترجم)، ومن أوائل من تأثر به في منهج تناوله جرجي زيدان في مؤلفه "تاريخ آداب اللغة العربية". يقول الدكتور شوقي ضيف في تقديمه للكتاب :"وكان من أهم ما استغله وانتفع به كتاب تاريخ الآداب العربية لبروكلمن" (1/5). وممن اتبعوا منهجه في الفهرسة ووضع بيبليوغرافيا شاملة للتراث العربي فؤاد سزكين في مصنفه "تاريخ التراث العربي" (ت.د.محمود فهمي حجازي. في 10 مجلدات)، والذي كان انتوى في بداية تأليفه للكتاب، كما يشير في مقدمة الجزء الأول، تجديد عمل "بروكلمان" متبعا المنهاج نفسه، إلا أنه عدل عن ذلك فيما بعد. ويقول عبد الرحمان بدوي في موسوعته :"من ذا الذي يمكن أن يستغني عن "تاريخ الأدب العربي" بأجزائه الخمسة...إنه لا يزال حتى الآن المرجع الأساسي والوحيد في كل ما يتعلق بالمخطوطات العربية وأماكن وجودها" (ص98).
     يختلف تبويب الكتاب بين أجزائه، فالجزء الأول قسم إلى أبواب وفصول، ومجموع أبوابه ثلاثة يتكون كل باب من عشرة فصول، أما الأجزاء الأخرى، فتتكون من أقسام وأبواب، والتي ترجم بعضها بالتناوب؛ رمضان عبد التواب، والسيد يعقوب بكر، بعد انتقال عبد الحليم النجار، الذي كانت قد كلفته إدارة القسم الثقافي للجامعة العربية بهذه الترجمة، إلى رحمة الله، والتي امتدت ما بين سنتي 1960 و 1962.
    وقد صنفت مواد الكتاب، بحسب العصور السياسية، على النحو الآتي:
-         أدب اللغة العربية من أوليته إلى سقوط الأمويين، وقسمه إلى ؛ أدب الأمة العربية من أوليته إلى ظهور الإسلام، وعصر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عصر الأمويين.
-         الأدب العربي الإسلامي، وقسمه إلى عصر النهضة، وعصر ما بعد الفترة القديمة.
أما تصنيف المادة، بحسب العلوم،ففي الفترة ما قبل الإسلام، خص الفصول التسعة من الباب الأول للشعر، وخص الفصل العاشر منه للنثر. مع تصدير هذا الجزء بمقدمة يبين فيها المؤلف ما دعاه بـ"منحى تاريخ الأدب"، ومفهومه للأدب بعامة، ومصادر تاريخ الأدب العربي والكتب السابقة التي تناولته، وأهم المصادر المعتمدة في تراجم المؤلفين، وعصوره ومبرر التقسيم الذي ارتضاء على غير ما عهد في التقسيم العربي بين الجاهلي والمخضرم والإسلامي. أما مع عصر النبي، صلى الله عليه وسلم، في الباب الثاني، فقد خص الفصل الأول للنبي، والفصل الثاني للقرآن، وباقي الفصول للشعر، وكذلك فعل مع  الباب الثالث ( (عصر الأمويين)، إلى الفصل العاشر الذي جعله للنثر. وانطلاقا من الكتاب الثاني، سيبدأ التفصيل في التصنيفات، بسبب التطورات والتنوع الذي عرفته علوم العربية وظهور علوم أخرى، ومنها علوم القرآن  والحديث والفقه، والتاريخ والنثر الفني والتصوف وعلم الفلك والرياضيات والعلوم الطبيعية والبلاغة، وغيرها.
              إن منهجية التناول عند "كارل بروكلمان"،  لا تقتصر على الضبط والوصف البيبليوغرافيين، بل تتجاوز ذلك إلى التأريخ وإبداء وجهات النظر، وانتقادها وإبداء الرأي الخاص، مع الاستعانة بالمراجع والمصادر.  ومن الأمثلة التي يمكن إيرادها في هذا الجانب؛ حديثه عن لفظة "قصيدة"، يقول:"وأجدر المحاولات بالتفضيل والاختيار من بين ما ذكره اللغويون في تفسير اشتقاق هذه الكلمة هو ما اختاره لاندبرج Lqndberg  من أن معناها "شعر الغرض والقصد، وإن غلا فيما زعم تعليلا لذلك...فمما لا ريب فيه أن الغرض والقصد لم يكن في الزمن القديم أصلا، ولم يكن في الزمن المتأخر دائما، هو الجزاء المادي. ومن ثم لم يصب جورج ياكوب في اقتراحه تفسير كلمة "القصيدة"، بأن معناها "شعر التسول"، فإن ذلك لا يصح إلا في عصور الانحلال والاضمحلال" (1/59).
     ففي هذا المقطع ؛ يشير إلى أن من معاني "قصيدة" التي ذكرها اللغويون، ويقصد إلى ما جاء في : طبقات الجمحي، كما أشار في الهامش، والمؤتلف والمختلف للآمدي، وطوق الحمامة لابن حزم، والتي عاد إليها (Landberg) واختار منها  ما رآه معبرا عن معنى الكلمة؛ "شعر الغرض والقصد"، ولكنه غالى فيما ذهب إليه من الزعم، وأورد في الهامش (2)عبارته بالفرنسية، ثم أتبع ذلك برأي "جورج ياكوب" الأكثر نغالاة فيما ذهب إليه من أن معنى الكلمة هو "شعر التسول".
     وفي الفصل السادس ، من الجزء الأول، الذي خصه بمصادر معرفة الشعر الجاهلي، يستهل حديثه عن الأشعار القديمة، التي جمعها اللغويون في دواوين، او مجموعات لقبائل، أو طبقات اجتماعية ، ثم المختارات والمنتخبات، بمناقشة أمر المعلقات، ليناقش أمر التسمية، ومجموعة "حماد الراوية"، وسبب التسمية، وعددها وأصحابها، وآراء المستشرقين الذين تعرضوا لها، لينتقل إلى المصادر الخاصة لهذه المعلقات، فيوردها مرتبة على النحو الآتي:
1-    نصوص وتراجم؛ أي نصوص المعلقات وترجماتها إلى اللغات الأخرى، ويسرد المصادر من الأقدم |إلى الأحدث، والشروح، مع الإشارة إلى مصادر ومراجع أخرى، والمطبوع وأماكن الطبع، ثم المخطوط وأماكن تواجده، وينتقل من اختيار حماد الراوية إلى اختيار المفضل الضبي، فيترجم له، ويحيل على المصادر التي عاد إليها واماكنها ونسخها وطبعاتها إن كانت مطبوعة، والشروح التي تناولتها، والمقارنة بينها وبين الأصمعيات والخلط الذي وقع بينهما والنسخ الأصلية وأماكن تواجدها، وغيرها من المعلومات الدقيقة ، وهذه الدقة والإحاطة تشمل باقي أقسام الكتاب وأجزئه وأبوابه وفصوله.
    وسنقتصر على مثال آخر هو "جمهرة أشعار العرب" (ص ص 75-77)، وتفرض رغبة الاختصار وضع التصميم الآتي:
     التعريف بالمجموعة؛ سنة جمعها، وأقسامها (سباعية) مع شيء من التفصيل في مضامين الأقسام؛ الأول خاص بالمعلقات، والأقسام الستة الأخرى حلي بعناوين مختارة؛ المجمهرات، المنتقيات، المذهبات إلخ.ومضامين القسم الأخير، وجامعها وما توفر من ترجمته، والمصدر الذي أخذ منه، وتاريخ الجمع أو التأليف  المحتمل.
أ‌-       مخطوطات:يشير في هذا القسم إلى أماكن وجود المخطوطات، مع الرقم التسلسلي  لكل مخطوط، والمرجع الذي يمكن الاستعانة به . 
ب‌-  طبعات:ويذكر الطبعات مرتبة تاريخيا، والكتب التي طبعت ضمنها، وطريقة الطبع ونوعها، والمراجع المساعدة في تعرف هذه الطبعات.
ت‌-  اختيارات ومصنفات  أخرى؛ ومنها : مصنف لمجهول وضع مجموعة تحتوي على ألف قصيدة (بغداد+ التواريخ)، والعنوان الذي وضعه لمجموعته، والمرجع الذي أخذ منه المستشرق أو الإحالة ومكان تواجده،وأشار إلى المجموعتين أو الاختيارين بـ"3 أ" و"3 ب"، وبينهما يستعمل الأرقام (1)، (2)، وبعد "جمهرة أشعار العرب"، ينتقل إلى اختيارات أخرى ظهرت في العصر العباسي مع انتشار نزعة التجديد، يمهد لها بفرش تاريخي، ليبدأ بأقدمها، وهي "حماسة أبي تمام"متبعا المنهاج المفصل نفسه، وكل ما توافر له من معلومات.

    إن مقاربة كتاب بيبليوغرافي (فهرست بالمعنى الذي استعمله ابن النديم ومن اتبع منهجه)، من مثل كتاب "تاريخ الأدب العربي" ، أو بعض عناصره حتى، لا يمكن لعجالة في مثل هذه أن تقوم به، ويبقى الأمر أقرب إلى الإشارة الخاطفة منه إلى دراسة مفصلة، وذلك ما لا تتسع له ولا المقام مقامه، ولكن فقط ، لأن الغاية لم تكن المؤلف أو منهجه في حد ذاته، بقدر ما كانت الإشارة من خلال هذا النموذج الاستشراقي، إلى أهمية علم الفهرسة، وتعدد مناهجه وغناه، وضرورته، بل إنه المبتدأ بالدرجة الأولى لأنه يمكن من حصر المصادر والمراجع ووصفها ومعرفتها معرفة دقيقة، ثم الاستفادة منها بعدئذ، وتكون المحصلة في الأخير، ليست نتائج الدراسة التي استعنا بها بهذه البيبليوغرافيا، وإنما قدر المنتج الفكري وما ساهمت به أمة من الأمم في وضع لبنات الحضارة الانسانية، وذلك هو الغاية والمنتهى. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق